فصل: تفسير الآيات (3-4):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (3-4):

{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}.
فَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَخَلْقُ الْإِنْسَانِ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْبَعْثِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْأُولَى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [40/ 57].
وَقَالَ فِي الثَّانِيَةِ: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [36/ 79].
وَلِذَا جَاءَ عَقِبَهَا قَوْلُهُ: وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ.
أَيْ: بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْبَعْثِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَخَلَقَ لَكُمْ آيَاتِ قُدْرَتِهِ عَلَى بَعْثِكُمْ، مِنْ ذَلِكَ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمِنْ ذَلِكَ خَلْقُكُمْ وَتَصْوِيرُكُمْ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، فَكَأَنَّ مُوجِبَ ذَلِكَ الْإِيمَانُ بِقُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى بَعْثِكُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَبِالتَّالِي إِيمَانُكُمْ بِمَا بَعْدَ الْبَعْثِ، مِنْ حِسَابٍ وَجَزَاءٍ وَجَنَّةٍ وَنَارٍ، وَلَكِنْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ.
وَقَدْ جَاءَ بَعْدَ ذِكْرِ الْأُمَمِ قَبْلَهُمْ وَبَيَانِ أَحْوَالِهِمْ جَاءَ تَفْنِيدُ زَعْمِ الْكُفَّارِ بِالْبَعْثِ وَالْإِقْسَامُ عَلَى وُقُوعِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [64/ 7]؛ لِأَنَّ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا التَّوْجِيهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْإِنْسَانِ: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [76/ 1- 3].
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [64/ 2].
ثُمَّ قَالَ: فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا، وَهُمَا حَاسَّتَا الْإِدْرَاكِ وَالتَّأَمُّلِ، فَقَالَ: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ مَعَ اسْتِعْدَادِهِ لِلْقَبُولِ وَالرَّفْضِ.
وَقَوْلُهُ: {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} مِثْلُ قَوْلِهِ هُنَا: {فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [64/ 2]، أَيْ بَعْدَ التَّأَمُّلِ وَالنَّظَرِ وَهِدَايَةِ السَّبِيلِ بِالْوَحْيِ، وَلِذَا جَاءَ فِي هَذَا السِّيَاقِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} [64/ 8].
وَبِكُلِّ مَا تَقَدَّمَ فِي الْجُمْلَةِ يَظْهَرُ لَنَا أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَ لَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا وَنَصَبَ الْأَدِلَّةَ عَلَى وُجُودِهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى بَعْثِ الْمَوْتَى، وَمِنْ ثَمَّ مُجَازَاتِهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رُسُلَهُ وَهُدَاهُ النَّجْدَيْنِ، ثُمَّ هُوَ بَعْدَ ذَلِكَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا وَلَوِ احْتَجَّ إِنْسَانٌ فِي الدُّنْيَا بِالْقَدَرِ لَقِيلَ لَهُ: هَلْ عِنْدَكَ عِلْمٌ بِمَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ عَلَيْكَ، أَمْ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَكَ وَنَهَاكَ وَبَيَّنَ لَكَ الطَّرِيقَ.
وَعَلَى كُلٍّ، فَإِنَّ قَضِيَّةَ الْقَدَرِ مِنْ أَخْطَرِ الْقَضَايَا وَأَغْمَضِهَا، كَمَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْقَدَرُ سِرُّ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا ذُكِرَ الْقَضَاءُ فَأَمْسِكُوا»، وَلَكِنْ عَلَى الْمُسْلِمِ النَّظَرُ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ وَحْيٍ وَبَعَثَ مِنْ رُسُلٍ.
وَأَهَمُّ مَا فِي الْأَمْرِ هُوَ جَرْيُ الْأُمُورِ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ وَقَدْ جَاءَ مَوْقِفٌ عَمَلِيٌّ فِي قِصَّةِ بَدْرٍ، يُوَضِّحُ حَقِيقَةَ الْقَدَرِ وَيُظْهِرُ غَايَةَ الْعِبَرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [8/ 43].
فَهُوَ تَعَالَى الَّذِي سَلَّمَ مِنْ مُوجِبَاتِ التَّنَازُعِ وَالْفَشَلِ بِمُقْتَضَى عِلْمِهِ بِذَاتِ الصُّدُورِ.
ثُمَّ قَالَ: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [8/ 44]، فَقَدْ أَجْرَى الْأَسْبَابَ عَلَى مُقْتَضَى إِرَادَتِهِ فَقَلَّلَ كُلًّا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي أَعْيُنِ الْآخَرِ؛ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ مَفْعُولًا، ثُمَّ بَيَّنَ الْمُنْتَهَى،: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

.تفسير الآية رقم (6):

{ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}.
فِيهِ اسْتِنْكَارُ الْكُفَّارِ أَنْ يَكُونَ مِنْ يَهْدِيهِمْ بَشَرًا لَا مَلَكًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} [17/ 94]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ} [54/ 25].
قَالَ الشَّيْخُ- رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ- فِي مُذَكِّرَةِ الدِّرَاسَةِ: فَشُبْهَتُهُمْ هَذِهِ الْبَاطِلَةُ رَدَّهَا اللَّهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا} [6/ 9]، وَقَوْلِهِ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا} [12/ 109] أَيْ: لَا مَلَائِكَةً وَقَوْلِهِ: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} الْآيَةَ [25/ 20].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}.
تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ- رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ- الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [3/ 97].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}.
قَالَ الشَّيْخُ- رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ- أَيْ: أَنَّ الْكُفَّارَ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ لَا يُبْعَثُونَ قَائِلِينَ: إِنَّ الْعِظَامَ الرَّمِيمَ لَا تُحْيَا، قُلْ لَهُمْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ: بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ، وَبَلَى حَرْفٌ يَأْتِي لِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ الْأَوَّلُ رَدُّ نَفْيٍ، كَمَا هُنَا.
الثَّانِي: جَوَابُ اسْتِفْهَامٍ مُقْتَرِنٍ بِنَفْيٍ نَحْوَ قَوْلِهِ: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [7/ 172]، وَقَوْلُهُ: وَرَبِّي قَسَمٌ بِالرَّبِّ عَلَى الْبَعْثِ الَّذِي هُوَ الْإِحْيَاءُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَقَدْ أَقْسَمَ بِهِ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، الْأَوَّلُ هَذَا.
وَالثَّانِي قَوْلُهُ: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [10/ 53].
الثَّالِثُ قَوْلُهُ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [34/ 3]. اهـ.
وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ} بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [17/ 13- 14]، وَقَوْلُهُ: وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ اسْمُ الْإِشَارَةِ رَاجِعٌ إِلَى الْبَعْثِ وَيُسْرُهُ أَمْرٌ مُسَلَّمٌ؛ لِأَنَّ الْإِعَادَةَ أَهْوَنُ مِنَ الْبَدْءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنِ الْكُفَّارِ: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [36/ 78- 79]، وَقَوْلِهِ: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [31/ 28]، وَقَالَ: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [30/ 27].

.تفسير الآية رقم (8):

{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا}.
النُّورُ هُنَا هُوَ الْقُرْآنُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [42/ 52]، وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ- رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ- الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [57/ 9] مِنْ سُورَةِ الْحَدِيدِ، وَفِي الْمُذَكِّرَةِ سَمَّاهُ نُورًا؛ لِأَنَّهُ كَاشِفٌ ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ، وَالشَّكِّ، وَالشِّرْكِ، وَالنِّفَاقِ.

.تفسير الآية رقم (9):

{يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ}.
يَوْمُ الْجَمْعِ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ الشَّيْخُ- رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ-: ظَرْفٌ مَنْصُوبٌ بِاذْكُرْ مُقَدَّرَةٍ أَوْ بِقَوْلِهِ: {خَبِيرٌ} [64/ 8].
فَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّهُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ خَبِيرٌ بِأَعْمَالِكُمْ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ فَيُجَازِيكُمْ عَلَيْهَا، سُمِّيَ يَوْمَ الْجَمْعِ؛ لِأَنَّهُ يُجْمَعُ فِيهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، يَسْمَعُهُمُ الدَّاعِي وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [56/ 49- 50].
وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ- رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ- الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنْهَا فِي الْجُزْءِ الثَّالِثِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ} [11/ 103].
وَمِنْهَا فِي الْجُزْءِ السَّابِعِ عِنْدَ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ: {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ} [56/ 49- 50].
وَمِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ فِيهِ: آيَةُ الشُّورَى: {وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ} ثُمَّ قَالَ: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [42/ 7].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ يَوْمَ التَّغَابُنِ}.
الْغَبْنُ: الشُّعُورُ بِالنَّقْصِ وَمِثْلُهُ الْخَبْنُ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي حَرْفَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةٍ، كَمَا فِي فِقْهِ اللُّغَةِ: فَبَيْنَهُمَا تَقَارُبٌ فِي الْمَعْنَى كَتَقَارُبِهِمْ فِي الْحَرْفِ الْمُخْتَلِفِ، وَهُوَ الْغَيْنُ وَالْخَاءُ وَلِخَفَاءِ الْغَيْنِ فِي الْحَلْقِ وَظُهُورِ الْخَاءِ عَنْهَا كَانَ الْغَبْنُ لِمَا خَفِيَ، وَالْخَبْنُ لِمَا ظَهَرَ.
وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى مُوجِبَ الْغَبْنِ لِلْغَابِنِ وَالْمَغْبُونِ فَقَالَ: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [64/ 9]، وَبَيَّنَ حَالَ الْمَغْبُونِ بِقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [64/ 10].
وَقَدْ بَيَّنَ الْعُلَمَاءُ حَقِيقَةَ الْغَبْنِ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِأَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ لَهُ مَكَانٌ فِي الْجَنَّةِ وَمَكَانٌ فِي النَّارِ، فَإِذَا دَخَلَ أَهْلُ النَّارِ النَّارَ بَقِيَتْ أَمَاكِنُهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَإِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ بَقِيَتْ أَمَاكِنُهُمْ فِي النَّارِ.
وَهُنَاكَ تَكُونُ مَنَازِلُ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي النَّارِ لِأَهْلِ النَّارِ، وَمَنَازِلُ أَهْلِ النَّارِ فِي الْجَنَّةِ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَوَارَثُونَهَا عَنْهُمْ، فَيَكُونُ الْغَبْنُ الْأَلِيمُ، وَهُوَ اسْتِبْدَالُ مَكَانٍ فِي النَّارِ بِمَكَانٍ فِي الْجَنَّةِ وَرِثُوا أَمَاكِنَ الْآخَرِينَ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى النَّارِ.

.تفسير الآية رقم (11):

{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ نَصٌّ صَرِيحٌ بِأَنَّ مَا يُصِيبُ أَحَدًا مُصِيبَةٌ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ كَذَلِكَ مَا يُصِيبُ أَحَدًا خَيْرٌ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [16/ 81] أَيْ: وَالْبَرْدَ.
وَلَكِنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى الْمُصِيبَةِ هُنَا؛ لِيَدُلَّ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَنَالُ الْعَبْدَ إِنَّمَا هُوَ بِإِذْنِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ الْجِبِلَّةَ تَأْبَى الْمَصَائِبَ وَتَتَوَقَّاهَا، وَمَعَ ذَلِكَ تُصِيبُهُ، وَلَيْسَ فِي مَقْدُورِهِ دَفْعُهَا بِخِلَافِ الْخَيْرِ، قَدْ يَدَّعِي أَنَّهُ حَصَّلَهُ بِاجْتِهَادٍ مِنْهُ كَمَا قَالَ قَارُونُ: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [28/ 78].
وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} قُرِئُ يَهْدَأْ بِالْهَمْزِ مِنَ الْهُدُوءِ، وَقَلْبُهُ بِالرَّفْعِ، وَهِيَ بِمَعْنَى يَهْدِي قَلْبَهُ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، فَيَسْتَرْجِعُ فَيَطْمَئِنُّ قَلْبُهُ بِهَذَا وَلَا يَجْزَعُ، وَهَذَا مِنْ خَصَائِصِ الْمُؤْمِنِ.
كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا فِي قَدَمِهِ».
وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [2/ 155- 157].
أَيْ: إِلَى مَا يَلْزَمُهُمْ مِنِ امْتِثَالٍ وَصَبْرٍ وَلِذَا جَاءَ بَعْدَهَا: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [64/ 12].
وَمِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى يُقَالُ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} وَالْكُفْرُ أَعْظَمُ الْمَصَائِبِ.
وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَالْإِيمَانُ بِاللَّهِ أَعْظَمُ النِّعَمِ، فَيَقُولُ قَائِلٌ: إِنْ كَانَ كُلُّ ذَلِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ، فَمَا ذَنْبُ الْكَافِرِ وَمَا فَضْلُ الْمُؤْمِنِ، فَجَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} بَيَانًا لِمَا يَلْزَمُ الْعَبْدَ، وَهُوَ طَاعَةُ الرُّسُلِ فِيمَا جَاءُوا بِهِ، وَلَا يَمْلِكُ سِوَى ذَلِكَ.
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَهْدِ قَلْبَهُ} مِنْ نِسْبَةِ الْهِدَايَةِ إِلَى الْقَلْبِ بَيَانٌ لِقَضِيَّةِ الْهِدَايَةِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [42/ 52]، مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [28/ 56].
فَقَالُوا: الْهِدَايَةُ الْأُولَى دَلَالَةُ إِرْشَادٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [41/ 17].
وَالثَّانِيَةُ: هِدَايَةُ تَوْفِيقٍ وَإِرْشَادٍ وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ شِبْهُ الْهِدَايَةِ مِنَ اللَّهِ لِقَلْبِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} بِتَكْرَارِ فِعْلِ الطَّاعَةِ يَدُلُّ عَلَى طَاعَةِ الرَّسُولِ تَلْزَمُ مُسْتَقِلَّةً.
وَقَدْ جَاءَتِ السُّنَّةُ بِتَشْرِيعَاتٍ مُسْتَقِلَّةٍ وَبِتَخْصِيصِ الْقُرْآنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [59/ 7].
وَمِمَّا يَشْهَدُ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [4/ 59]، فَكَرَّرَ الْفِعْلَ بِالنِّسْبَةِ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ، وَلَمْ يُكَرِّرْهُ بِالنِّسْبَةِ لِأُولِي الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ طَاعَتَهُمْ لَا تَكُونُ اسْتِقْلَالًا بَلْ تَبَعًا لِطَاعَةِ اللَّهِ، وَطَاعَةِ رَسُولِهِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ».

.تفسير الآية رقم (14):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ}.
تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ- رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ- الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [18/ 46].
وَمِمَّا يُعْتَبَرُ تَوْجِيهًا قُرْآنِيًّا لِعِلَاجِ مَشَاكِلِ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَقَضِيَّةِ الْأَوْلَادِ التَّعْقِيبُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [64/ 14]، أَيْ: إِنَّ عَدَاوَةَ الزَّوْجَةِ وَالْأَوْلَادِ لَا يَنْبَغِي أَنْ تُقَابَلَ إِلَّا بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَالْغُفْرَانِ، وَأَنَّ ذَلِكَ يُخَفِّفُ أَوْ يُذْهِبُ أَوْ يُجَنِّبُ الزَّوْجَ وَالْوَالِدَ نَتَائِجَ هَذَا الْعَدَاءِ، وَأَنَّهُ خَيْرٌ مِنَ الْمُشَاحَّةِ وَالْخِصَامِ.
وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ قَالَ: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [64/ 15] أَيْ: قَدْ تَفْتِنُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ: {لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [63/ 9].
وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ هَذَا الْمَبْحَثُ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ كَمَا أَشَرْنَا.

.تفسير الآية رقم (16):

{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}.
يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ التَّكْلِيفَ فِي حُدُودِ الِاسْتِطَاعَةِ، وَيُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [2/ 286].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [2/ 286].
وَفِي الْحَدِيثِ: «قَالَ اللَّهُ قَدْ فَعَلْتُ»، وَهَذَا فِي الْأَوَامِرِ دُونَ النَّوَاهِي؛ لِأَنَّ النَّوَاهِيَ تُرُوكٌ.
كَمَا جَاءَ فِي السُّنَّةِ: «مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ»، وَهَذَا مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
كَمَا تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ- رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ- عِنْدَ أَوَاخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ فِي رُخَصِ الصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ وَنَحْوِهِمَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
قَالُوا: الشُّحُّ، أَخَصُّ مِنَ الْبُخْلِ، وَقِيلَ الْبُخْلُ: أَنْ تَضِنَّ بِمَالِكَ، وَالشُّحُّ أَنْ تَضِنَّ بِمَالِ غَيْرِكَ، وَالْوَاقِعُ أَنَّ الشُّحَّ مُنْتَهَى الْبُخْلِ، وَإِنْ ذَكَرَهُ هُنَا بَعْدَ قَضَايَا الْأَزْوَاجِ وَالْأَوْلَادِ وَفِتْنَتِهِمْ وَعَدَاوَتِهِمْ، ثُمَّ الْأَمْرِ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَالْإِنْفَاقِ فِي قَوْلِهِ: {وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ} [64/ 16]، يُشْعِرُ بِأَنَّ أَكْثَرَ قَضَايَا الزَّوْجِيَّةِ مَنْشَؤُهَا مِنْ جَانِبِ الْمَالِ حِرْصًا عَلَيْهِ أَوْ بُخْلًا بِهِ، حِرْصًا عَلَيْهِ بِالسَّعْيِ إِلَيْهِ بِسَبَبِهِمْ، فَقَدْ يُفْتَنُ فِي ذَلِكَ، وَشُحًّا بِهِ بَعْدَ تَحْصِيلِهِ فَقَدْ يُعَادُونَهُ فِيهِ.
وَالْعِلَاجُ النَّاجِعُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ الْإِنْفَاقُ وَتَوَقِّي الشُّحِّ، وَالشُّحُّ مِنْ جِبِلَّةِ النَّفْسِ: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} [4/ 128]، وَفِي إِضَافَةِ الشُّحِّ إِلَى النَّفْسِ مَعَ إِضَافَةِ الْهِدَايَةِ فِيمَا تَقَدَّمَ إِلَى الْقَلْبِ سِرٌّ لِطَيْفٌ، وَهُوَ أَنَّ الشُّحَّ جِبِلَّةُ الْبَشَرِيَّةِ، وَالْهِدَايَةَ مِنْحَةٌ إِلَهِيَّةٌ، وَالْأُولَى قُوَّةٌ حَيَوَانِيَّةٌ، وَالثَّانِيَةُ قُوَّةٌ رُوحِيَّةٌ.
فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُغَالِبَ بِالْقُوَّةِ الرُّوحِيَّةِ مَا جُبِلَ عَلَيْهِ مِنْ قُوَّةٍ بَشَرِيَّةٍ؛ لِيَنَالَ الْفَلَاحَ وَالْفَوْزَ، كَمَا أَشَارَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ثُمَّ قَالَ: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [18/ 46].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا}.
أَيْ: لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا، وَلَا كَقَوْمِ نُوحٍ الَّذِينَ قَالَ عَنْهُمْ: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [71/ 7].
وَقَدْ نَدَّدَ بِقَوْلِ الْكُفَّارِ: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [41/ 26].
قَالَ الشَّيْخُ- رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ-: اسْمَعُوا مَا يُقَالُ لَكُمْ، وَأَطِيعُوا فِيمَا سَمِعْتُمْ، لَا كَمَنْ قَبْلَكُمُ الْمُشَارِ إِلَيْهِمْ بِالْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ.

.تفسير الآية رقم (17):

{إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ}.
قَالَ الشَّيْخُ- رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ-: قَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ يُضَاعِفُ الْإِنْفَاقَ سَبْعَمِائَةٍ إِلَى أَكْثَرَ بِقَوْلِهِ: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ، إِلَى قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [2/ 261].
وَأَصْلُ الْقَرْضِ فِي اللُّغَةِ: الْقَطْعُ وَفِي الشَّرْعِ قَطْعُ جُزْءٍ مِنَ الْمَالِ يُعْطِيهِ لِمَنْ يَنْتَفِعُ بِهِ ثُمَّ يَرُدُّهُ، أَيْ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَرُدُّ أَضْعَافًا، وَقَدْ سَمَّى مُعَامَلَتَهُ مَعَ عَبِيدِهِ قَرْضًا وَبَيْعًا وَشِرَاءً وَتِجَارَةً.
وَمَعْنَى ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ الْعَبْدَ يَعْمَلُ لِوَجْهِ اللَّهِ وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا يُعْطِيهِ ثَوَابَ ذَلِكَ الْعَمَلِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ} الْآيَةَ [64/ 17].
وَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [9/ 111].
وَقَوْلِهِ: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} [9/ 111].
وَقَوْلِهِ: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ} الْآيَةَ [61/ 10- 11]، مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [35/ 29].
وَالْقَرْضُ الْحَسَنُ هُوَ مَا يَكُونُ مِنَ الْكَسْبِ الطَّيِّبِ خَالِصًا لِوَجْهِ اللَّهِ. اهـ.
وَمِمَّا يَشْهَدُ لِقَوْلِهِ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي مَعْنَى الْقَرْضِ الْحَسَنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} [2/ 264]؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُنْفِقْ بِإِخْلَاصٍ لِوَجْهِ اللَّهِ، وَمَجِئُ الْحَسَنِ عَلَى الْقَرْضِ الْحَسَنِ هُنَا بَعْدَ قَضِيَّةِ الزَّوْجِيَّةِ وَالْأَوْلَادِ وَتَوَقِّي الشُّحِّ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْإِنْفَاقَ عَلَى الْأَوْلَادِ وَالزَّوْجَةِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْقَرْضِ الْحَسَنِ مَعَ اللَّهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [2/ 215].
وَأَقْرَبُ الْأَقْرَبِينَ بَعْدَ الْوَالِدَيْنِ هُمُ الْأَوْلَادُ وَالزَّوْجَةُ.
وَفِي الْحَدِيثِ فِي الْحَثِّ عَلَى الْإِنْفَاقِ: «حَتَّى اللُّقْمَةَ يَضَعُهَا الرَّجُلُ فِي فِي امْرَأَتِهِ».
وَقَوْلُهُ: {وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} [64/ 17].
قَالَ الشَّيْخُ- رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ-: شُكْرُ اللَّهِ لِعَبْدِهِ هُوَ مُجَازَاتُهُ لَهُ بِالْأَجْرِ الْجَزِيلِ عَلَى الْعَمَلِ الْقَلِيلِ.
وَقَوْلُهُ: {حَلِيمٌ} أَيْ: لَا يُعَجِّلُ بِالْعُقُوبَةِ بَلْ يَسْتُرُ وَيَتَجَاوَزُ عَنْ ذُنُوبٍ. وَمَجِئُ هَذَا التَّذْيِيلِ هُنَا يُشْعِرُ بِالتَّوْجِيهِ فِي بَعْضِ نَوَاحِي إِصْلَاحِ الْأُسْرَةِ، وَهُوَ أَنْ يَقْبَلَ كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ عَمَلَ الْآخَرِ بِشُكْرٍ، وَيُقَابِلُ كُلَّ إِسَاءَةٍ بِحِلْمٍ لِيَتِمَّ مَعْنَى حُسْنِ الْعِشْرَةِ، وَلِأَنَّ الْإِنْفَاقَ يَسْتَحِقُّ الْمُقَابَلَةَ بِالشُّكْرِ وَالْعَدَاوَةَ تُقَابَلُ بِالْحِلْمِ.

.تفسير الآية رقم (18):

{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}.
مَجِئُ الْآيَةِ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَةِ يُشْعِرُ بِالْحَصْرِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [6/ 59]، وَمَجِيئُهُ هُنَا أَيْضًا يُشْعِرُ بِأَنَّ الرَّقَابَةَ عَلَى الْأُسْرَةِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ إِنَّمَا هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُمَا يَكُونَانِ فِي عُزْلَةٍ عَنِ النَّاسِ وَلَا يَطَّلِعُ عَلَى مَا بَيْنَهُمَا إِلَّا اللَّهُ، عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَيْ فَلْيُرَاقِبْ كُلٌّ مِنْهُمَا رَبَّهُ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَمُجَازِيًا كُلًّا مِنْهُمَا عَلَى فِعْلِهِ.

.سُورَةُ الطَّلَاقِ:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

.تفسير الآية رقم (1):

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ} الْآيَةَ.
قِيلَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَّقَ حَفْصَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- فَنَزَلَتْ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَعَلَى كُلٍّ فَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ.
وَمِمَّا يَشْهَدُ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَا لَوْ أَخَذْنَا بِعَيْنِ الِاعْتِبَارِ النَّسَقَ الْكَرِيمَ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ، حَيْثُ كَانَ آخِرَ مَا قَبْلَهَا مَوْضُوعُ الْأَوْلَادِ وَالزَّوْجَاتِ مِنْ فِتْنَةٍ وَعَدَاءٍ.
وَالْإِشَارَةُ إِلَى عِلَاجِ مَا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنْ إِنْفَاقٍ وَتَسَامُحٍ عَلَى مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ سَابِقًا هُنَاكَ، فَإِنْ صَلُحَ مَا بَيْنَهُمْ بِذَاكَ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَإِنْ تَعَذَّرَ مَا بَيْنَهُمَا وَكَانَتِ الْفُرْقَةُ مُتَحَتِّمَةً فَجَاءَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى إِثْرِهَا تُبَيِّنُ طَرِيقَةَ الْفُرْقَةِ السَّلِيمَةِ فِي الطَّلَاقِ وَتَشْرِيعِهِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ عِدَدٍ وَإِنْفَاقٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} بِالنِّدَاءِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَوْلُهُ: إِذَا طَلَّقْتُمُ بِخِطَابٍ لِعُمُومِ الْأُمَّةِ، قَالُوا: كَانَ النِّدَاءُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخِطَابُ لِلْأُمَّةِ تَكْرِيمًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَكْلِيفًا لِلْأُمَّةِ. وَقِيلَ: خُوطِبَتِ الْأُمَّةُ فِي شَخْصِيَّةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَخِطَابِ الْجَمَاعَةِ فِي شَخْصِيَّةِ رَئِيسِهَا.
وَقَالَ الشَّيْخُ- رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ-: وَلِهَذِهِ الْآيَةِ اسْتَدَلَّ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكُونُ دَاخِلًا فِي عُمُومِ خِطَابِ الْأُمَّةِ. اهـ.
وَالْوَاقِعُ أَنَّ الْخِطَابَ الْمُوَجَّهَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
الْأَوَّلُ: قَدْ يَتَوَجَّهُ الْخِطَابُ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَكُونُ دَاخِلًا فِيهِ قَطْعًا، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْأُمَّةُ بِلَا خِلَافٍ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي بِرِّ الْوَالِدَيْنِ: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [17/ 23- 24].
فَكُلُّ صِيَغِ الْخِطَابِ هُنَا مُوَجَّهَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَطْعًا لَيْسَ مُرَادًا بِذَلِكَ لِعَدَمِ وُجُودِ وَالِدَيْنِ، وَلَا أَحَدِهِمَا عِنْدَ نُزُولِهَا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ خَاصًّا بِهِ لَا يَدْخُلُ مَعَهُ غَيْرُهُ قَطْعًا، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [33/ 50].
وَالثَّالِثُ: هُوَ الشَّامِلُ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِغَيْرِهِ بِدَلِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَوَّلِ السُّورَةِ الَّتِي بَعْدَهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} [66/ 1]، فَهَذَا كُلُّهُ خِطَابٌ مُوَجَّهٌ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَجَاءَ بَعْدَهَا مُبَاشَرَةً: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ بِخِطَابِ الْجَمِيعِ: {تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [66/ 2] فَدَلَّ أَنَّ الْآيَةَ دَاخِلَةٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [66/ 1]، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.
وَقَدْ بَيَّنَ الشَّيْخُ- رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ- هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِأَقْوَى دَلِيلٍ فِيهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} إِلَى قَوْلِهِ: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} [30- 31].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} الْآيَةَ، يُشْعِرُ بِأَنَّ كُلَّ الْمُطَلَّقَاتِ مِنَ النِّسَاءِ يُطَلَّقْنَ لِعِدَّتِهِنَّ وَتُحْصَى عِدَّتُهُنَّ.
وَالْإِحْصَاءُ الْعَدَدُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْحَصَا، وَهُوَ الْحَصَا الصَّغِيرُ كَانَتِ الْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُهُ فِي الْعَدَدِ لِأُمِّيَّتِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْضَ عِدَدٍ لِبَعْضِ الْمُطَلَّقَاتِ وَلَمْ يَذْكُرْ جَمِيعَهُنَّ مَعَ أَنَّهُ مِنَ الْمُطَلَّقَاتِ مَنْ لَا عِدَّةَ لَهُنَّ وَهُنَّ غَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهِنَّ، وَمِنَ الْمُطَلَّقَاتِ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ عِدَّتَهُنَّ هُنَا.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّهُ لَا عُمُومَ وَلَا تَخْصِيصَ؛ لِأَنَّ لَفْظَ النِّسَاءِ اسْمُ جِنْسٍ يُطْلَقُ عَلَى الْكُلِّ وَعَلَى الْبَعْضِ، وَقَدْ أُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْبَعْضِ وَهُوَ الْمُبَيَّنُ حُكْمُهُنَّ بِذِكْرِ عِدَّتِهِنَّ، وَهُنَّ اللَّاتِي يَئِسْنَ وَالصَّغِيرَاتُ وَذَوَاتُ الْحَمْلِ، وَحَاصِلُ عِدَدِ النِّسَاءِ تَتَلَخَّصُ فِي الْآتِي، وَهِيَ أَنَّ الْفُرْقَةَ إِمَّا بِحَيَاةٍ أَوْ بِمَوْتٍ، وَالْمُفَارَقَةُ إِمَّا حَامِلٌ أَوْ غَيْرُ حَامِلٍ، فَالْحَامِلُ عِدَّتُهَا بِوَضْعِ حَمْلِهَا اتِّفَاقًا، وَلَا عِبْرَةَ بِالْخِلَافِ فِي ذَلِكَ لِصِحَّةِ النُّصُوصِ، وَغَيْرُ الْحَامِلِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ مَدْخُولٌ بِهَا وَغَيْرُ مَدْخُولٍ، وَالْمُفَارَقَةُ بِالْحَيَاةِ إِمَّا مَدْخُولٌ بِهَا أَوْ غَيْرُ مَدْخُولٍ بِهَا، فَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا إِجْمَاعًا، وَالْمَدْخُولُ بِهَا إِمَّا مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ فَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ عَلَى خِلَافٍ فِي الْمُرَادِ بِالْقُرْءِ.
وَأَمَّا مَنْ لَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ، كَالْيَائِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ، فَعِدَّتُهَا بِالْأَشْهُرِ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ- رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ- فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [2/ 228]، وَفَصْلُ أَنْوَاعِ الْمُطَلَّقَاتِ الْمَدْخُولِ بِهِنَّ وَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهِنَّ، وَأَنْوَاعُ الْعِدَدِ بِالْأَقْرَاءِ أَوِ الْأَشْهُرِ أَوِ الْحَمْلِ، وَبَيَّنَ الْجَمْعَ بَيْنَ الْعُمُومَاتِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مِمَّا يُغْنِي عَنِ الْإِعَادَةِ هُنَا.
تَنْبِيهٌ:
كُلُّ مَا تَقَدَّمَ فِي شَأْنِ الْعِدَّةِ، إِنَّمَا هُوَ فِي خُصُوصِ الْحَرَائِرِ، وَبَقِيَ مَبْحَثُ الْإِمَاءِ.
أَمَّا الْإِمَاءُ: فَالْحَوَامِلُ مِنْهُنَّ كَالْحَرَائِرِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ، وَغَيْرُ الْحَوَامِلِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا عَلَى النِّصْفِ مِنَ الْحُرَّةِ إِلَّا أَنَّ الْحَيْضَةَ لَمَّا لَمْ تَكُنْ تَتَجَزَّأُ فَجُعِلَتْ عِدَّتُهَا فِيهَا حَيْضَتَيْنِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ.
أَمَّا ذَاتُ الْأَشْهُرِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا تَعْتَدُّ شَهْرًا وَنِصْفًا، وَخَالَفَ مَالِكٌ فَجَعَلَ لَهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، فَيَكُونُ مَالِكٌ- رَحِمَهُ اللَّهُ- وَافَقَ الْجُمْهُورَ فِي ذَوَاتِ الْحَيْضِ، وَخَالَفَ الْجُمْهُورَ فِي ذَوَاتِ الْأَشْهُرِ، وَقَدْ أَخْطَأَ ابْنُ رُشْدٍ مَعَ مَالِكٍ فِي نِقَاشِهِ مَعَهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، فَقَالَ فِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ:
وَقَدْ اضْطَرَبَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَلَا بِالنَّصِّ أَخَذَ وَلَا بِالْقِيَاسِ عَمِلَ، يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ بِالنَّصِّ فِي ذَوَاتِ الْحَيْضِ فَيَجْعَلْ لَهُنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ، كَمَا أَخَذَ بِهِ فِي ذَوَاتِ الْأَشْهُرِ، حَيْثُ جَعَلَ لَهُنَّ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ بِالنَّصِّ، وَلَا بِالْقِيَاسِ عَمِلَ، أَيْ: فَلَمْ يُنَصِّفِ الْأَشْهُرَ قِيَاسًا عَلَى الْحَيْضِ، فَكَانَ مَذْهَبُهُ مُلَفَّقًا بَيْنَ الْقِيَاسِ فِي ذَوَاتِ الْحَيْضِ، وَالنَّصِّ فِي ذَوَاتِ الْأَشْهُرِ، فَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْأَئِمَّةَ الثَّلَاثَةَ.
وَاضْطَرَبَ قَوْلُهُ فِي نَظَرِ ابْنِ رُشْدٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَطَّرِدِ الْقِيَاسَ فِيهِمَا، وَلَا أَعْمَلَ النَّصَّ فِيهِمَا، وَلَكِنَّ الْحَقَّ فِي الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْرَفَ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ وِجْهَةِ النَّظَرِ عَنِ الْمُخَالِفِ، فَقَدْ يَكُونُ مُحِقًّا، وَقَدْ يَكُونُ فِعْلًا الْحَقُّ مَعَ غَيْرِهِ.
وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالذَّاتِ أَشَارَ الْعَدَوِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ: بِأَنَّ وِجْهَةَ نَظَرِ مَالِكٍ هِيَ الرُّجُوعُ إِلَى أَصْلِ الْغَرَضِ مِنَ الْعِدَّةِ وَهُوَ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ، وَالشَّهْرُ وَالنِّصْفُ لَا يَكْفِي لِلْمَرْأَةِ نَفْسِهَا أَنْ تُخْبِرَ عَنْ نَفْسِهَا عَمَّا إِذَا كَانَتْ حَامِلًا أَمْ لَا، فَأَكْمَلَ لَهَا الْمُدَّةَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا.
أَمَّا الْحَيْضَتَانِ: فَفِيهِمَا بَيَانٌ لِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ. اهـ. مُلَخَّصًا.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْعَدَوِيُّ لَهُ أَصْلٌ مِنَ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ ذَاتَ الْأَقْرَاءِ وَجَدْنَاهَا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ تَعْتَدُّ بِحَيْضَةٍ، كَمَا جَاءَ النَّصُّ فِي عِدَّةِ الْمُخْتَلِعَةِ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا خِلَافٌ، وَوَجَدْنَا الْأَمَةَ تَثْبُتُ بَرَاءَةُ رَحِمِهَا فِي غَيْرِ هَذَا بِحَيْضَتَيْنِ قَطْعًا، وَهِيَ فِيمَا إِذَا كَانَتْ سُرِّيَّةً لِمَالِكِهَا فَأَرَادَ بَيْعَهَا فَإِنَّهُ يَسْتَبْرِئُهَا بِحَيْضَةٍ، وَالَّذِي يَشْتَرِيهَا يَسْتَبْرِئُهَا بِحَيْضَةٍ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، ثُمَّ هُوَ يَفْتَرِشُهَا وَيَأْمَنُ مِنْ أَنْ يَسْقِيَ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ فِي الْحَيْضَتَيْنِ بَرَاءَةً لِلرَّحِمِ، فَاكْتَفَى بِهِمَا مَالِكٌ وَوَافَقَ الْجُمْهُورَ.
وَأَمَّا الشَّهْرُ وَالنِّصْفُ فَإِنَّهُمَا لَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَبَيَّنَ الْمَرْأَةُ فِيهِمَا حَمْلًا؛ لِأَنَّهَا مُدَّةُ الْأَرْبَعِينَ الْأُولَى وَهِيَ مَرْحَلَةُ النُّطْفَةِ، فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ الْحَقَّ مَعَ مَالِكٍ، وَأَنَّ ابْنَ رُشْدٍ هُوَ الَّذِي اضْطَرَبَتْ مَقَالَتُهُ عَلَى مَالِكٍ، وَقَدْ سُقْنَا هَذَا التَّنْبِيهَ لِبَيَانِ وَاجِبِ طَالِبِ الْعِلْمِ أَمَامَ الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ مِنْ ضَرُورَةِ الْبَحْثِ عَنِ السَّبَبِ وَوِجْهَةِ نَظَرِ الْمُخَالِفِ وَعَدَمِ الْمُبَادَرَةِ لِلْإِنْكَارِ، لِأَنْ يَكُونَ هُوَ أَحَقُّ بِأَنْ يُنْكَرَ عَلَيْهِ وَلَا يُسَارِعَ لِرَدِّ قَوْلٍ قَدْ يَكُونُ قَوْلُهُ هُوَ أَوْلَى بِأَنْ يُرَدَّ عَلَيْهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ الْمُرَادَ لِاسْتِقْبَالِ عِدَّتِهِنَّ وَفِيهِ مَبْحَثُ الطَّلَاقِ السُّنِّيِّ وَالْبِدْعِيِّ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَامِلَ وَغَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا لَا بِدْعَةَ فِي طَلَاقِهِمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَأُلْحِقَتْ بِهِمَا الصَّغِيرَةُ، وَالطَّلَاقُ الْبِدْعِيُّ هُوَ جَمْعُ الثَّلَاثِ فِي مَرَّةٍ أَوِ الطَّلَاقُ فِي الْحَيْضَةِ أَوْ فِي طُهْرٍ مَسَّهَا فِيهِ. وَعِنْدَ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُفَرِّقُ الطَّلَقَاتِ عَلَى الصَّغِيرَةِ كُلَّ طَلْقَةٍ فِي شَهْرٍ وَلَا يَجْمَعُهَا، وَقَدْ طَالَ الْبَحْثُ فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ الْبِدْعِيِّ، هَلْ يَقَعُ وَيُحْتَسَبُ عَلَى الْمُطَلِّقِ، أَمْ لَا؟
وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَبَلَّغَ ذَلِكَ عُمَرَ فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا».
وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ يَعْتَدُّ بِتِلْكَ الطَّلْقَةِ، وَمَنْ خَالَفَ فِيهَا السُّنَّةَ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُرَاجِعَهَا، وَلْيَعْمَلْ كَمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا فِي طُهْرٍ لَمْ يَمَسَّهَا فِيهِ، أَيْ: لِتَسْتَقْبِلْ عِدَّتَهَا مَا لَمْ تَكُنِ الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ أَوْ بِالثَّلَاثِ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ.
وَقَدْ سُئِلَ أَحْمَدُ- رَحِمَهُ اللَّهُ- عَنِ الِاعْتِدَادِ بِهَذِهِ الطَّلْقَةِ فِي الْحَيْضَةِ فَقَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلْيُرَاجِعْهَا»، يَدُلُّ عَلَى الِاعْتِدَادِ بِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا رَجْعَةَ إِلَّا مِنْ طَلَاقٍ.

وَقَدْ أَطَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ الْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي إِحْكَامِ الْأَحْكَامِ وَغَيْرِهِ مِمَّا لَا دَاعِيَ إِلَى سَرْدِهِ، وَحَاصِلُهُ مَا قَدَّمْنَا، وَلَمْ يَقُلْ بِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِهَا إِلَّا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ.
وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} عَلَى إِطْلَاقِهِ يُشْعِرُ بِالِاعْتِدَادِ بِالطَّلَاقِ سُنِّيًّا كَانَ أَوْ بِدْعِيًّا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}.
ظَاهِرُهُ أَنَّ الْإِمْسَاكَ بِمَعْرُوفٍ إِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ، مَعَ أَنَّهُنَّ إِذَا بَلَغْنَ إِلَى ذَلِكَ الْحَدِّ خَرَجْنَ مِنَ الْعِدَّةِ وَانْتَهَى وَجْهُ الْمُرَاجَعَةِ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ هُنَا إِذَا قَارَبْنَ أَجَلَهُنَّ وَلَمْ يَتَجَاوَزْنَهُ أَوْ يَصِلْنَ إِلَيْهِ بِالْفِعْلِ، وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ مَا قَارَبَ الشَّيْءَ يُعْطَى حُكْمُهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [16/ 98].
وَمِثْلُ الْآيَةِ الْحَدِيثُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الْخَلَاءَ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ»، مَعَ أَنَّهُ عِنْدَ الْإِتْيَانِ أَوْ أَثْنَاءَهُ لَا يَحِقُّ لَهُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَقُولُهُ إِذَا قَارَبَ دُخُولَهُ، فَكَذَلِكَ هُنَا.
أَمَّا الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا فَقَدْ بَحَثَهَا الشَّيْخُ- رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ- بَحْثًا وَافِيًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [2/ 229]، مِمَّا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ.